قطـــر.. حكاية وطن وهوية امة ...
كتبت د. سبأ جرار - جنين
انطلق الحلمُ ليُكوِّن مونديال قطر من فكرٍ خلاَّق، وتحدٍ مدركٍ للمعيقاتِ الطبيعيةِ والاقتصاديةْ، ومعاييرَ موازين الحقْ لِفرص استضافة الأحداثِ المُلهِمَة والدولية ضمن محددات القوى العظمى و قوانينها، لكنه فكرٌ حُرٌّ انبثق من رؤية ثاقبة، واعتمد على حتميةِ تحقيق الهدف، واستمد القوة من أصالة المنشأ، ورسوخ الجذور، وانطلق بغايات سامية، تعدت حدود الاستضافة فيها، لإحراز انجازٍ على الخارطة العالمية، بل السعيّ للمشاركة في إعادة التشكيل للصورة العربية بما يليق بها، وبما يتناغم مع ثرواتها المادية والحضارية، هو لم يأبه للتحديات المتوقعة أو المعايير الصارمة، لأنه مؤمنٌ بمعيارِ الإرثِ العظيم، وامتلاكِ الحقِ والقدرةِ على صياغة حلم العالم بنكهة شرقية منسوجة بسحر الخليج المتأصل في شروق شمس قطر كل يــــــوم .
لن أتحدث هنا عن الابهار التكنولوجي والتطور اللامحدود في المنشآت، والتغلبِ على المناخ، ولا على الرقي في البنية التحتية التي تجاوزت كل الاحتياجات برفاهية عبرت المعايير الدولية في الهندسة والأعمار والبنى التحتية، لكن، سأركزُ إضاءتي على الإرث، وهو البعد الاعمق لطموحِ شعب ٍوقيادة، لم تفصل نفسها عن المحيط، وتنامت لديها دائما المسؤولية اتجاه كلَّ مؤشرٍ يرفعُ من سُموْ الامة العربية والإسلامية، قيادة طموحة حملت على عاتقها تحدي عملِ المختلف، وبلوغ اقصى الابداع لفعالية تناوبت عليها الدول والأمم، لكنها بقيت تبحث بشغفٍ عن الكمال، فكان التحدي والوعد بان تكون قطـــــر صانعة الحدث الأعظم للتاريخ والمستقبـــــل .
هو يقينٌ بالقدرة على صهرِ الثقافاتْ، وبناءِ الجسور، واستثمار الطاقات أياً كانت هويتها، وبتطلع دائم للارتقاء بالحقوق، وإصلاح الهفوات، وبلوغ المأمول للديمومة القيميّة، هو قرار بتطويع مسلمات قوانين الطبيعة ، واستخراج اسرارها الدفينة الكامنة، لتطويعها نحو تغيير النتائج، كيف لا؟، ومن يصنع الحلم أُمةٌ استخرجت اللؤلؤ من عمق الظلام، وصاغت الماس من العـــــــــدم .
كل ذلك، في اطار إستثمار محبب ذو غاية عميقة لمكونات القيم الإسلامية العربية، وأدواتها الثقافية المتشكلة من رحم الصحراء الفريد، والتي كانتْ تُستَخْدَمْ منذ حين ليس ببعيد، كمؤشر على التخلف والمحدودية، بل أكثر من ذلك كمبررٍ بأن تلك الرموز مؤشر على البيئة الحاضنة لأي تطرف، أو حالة عجز عن قدرة التواصل الانساني، وَوَسْمِ الانسان العربي بأنه المنشغل باحتياجاته ونزاعاته، المتعثر في أحلامه ما بين خلع لباسه الأصيل ونزع العمامة ، وبين التمثل والقبول ببعض الصور والممارسات الشغوفة بحياة الغرب، لقد جسد كلَّ رمزٍ قزمٍ في الماضي كدلالة ٍعلى ضعف الموروث الثقافي، وتعارضه مع النزعة الإنسانية للتطور، ليكون أساس أصيل لحكاية التميز والرفعة لهذا الموروث، القادر على تكوين إنجازات ذات أصالة في التاريخ، وذو تطلع لعبور كل الحضارات وانجازاتها بواقع ينقل الإنسانية نحو البقاء والاستدامة في الممارسة والنتائج، وبترفّع وجمالية تختص بها الأمم المتمركزة في الصحراء، حدودها سماءُ العلمِ والتكنولوجيا، وكسر التحديات لحياة اكثرُ سعادةً للأجيال القادمة، وأقمارها بلاغةٌ وسحرٌ في الادب والمضمون الجمالي لمحيط الانســـــــان .
فكانت فلسفة المنشآت والملاعب بصورة مُبهرة للإرث والموروث المتزين بلؤلؤ حوريات الخليج، ورمال الصحراء، تتسارع بها الابل المتباهية، لنقلها مع الحكايات ليس للخيال فيها حدود، فتوّلدَ من فكرها شعار وشاح الاصالة وعبق التراث، وأنشأت الملاعب برمزية الخيمة، وما تمثله للإنسان من دلالة الأمان والاستقرار، إلي فضول ترحال سفن ألهمها الإبحار على سطح الذهب الأزرق للبحث عن اللؤلؤ الكامن في الأعماق المظلمة، لتعود محمّلة بما يليق بسواعد الفارس الأسمر حيث لا يقبل بالمألوف، بل السيطرة على الطبيعة، والاستحواذ على نقاء اللؤلؤ وصلابة الماس، هذه هي رموز الملاعب التي تَخَلّقت عبر السنين، وتباهت الان لتكون هوية ذات دلالة وأصالة، جعلت من الاحتفالية العالمية مشهد نوعي لم يحققه في الدورات الاحدى والعشرين الماضية، كيف لا؟، وهي نتاج قرار حكيم مُسْتثمر لكل ما تملكه الامة لرفعتها وسموهـــــا ...
أصرت العقول والقلوب على استحضار الكرة المرتحلة الباحثة عبر الدورات والدول عن المجد والإعجاز في التحدي لكل ما سبق وما سيكون، فكانت النتيجة للجهود والأفعال التي لم تضعفها المعيقات والمحبطات، ولم تُعجزها الشروط والمعايير، فكان الإصرار، وبلغت الكرة موطنها الذي تستحق، ووصلت بعد ترحال حمل بين ثناياه أحلام العالم ورسائل الأمنيات، وكانت لحظة الوصول، بدء التحقيق لتلك الاحلام وشمولية التضمين لكل ما سيبهر المراهنين على انه الحدث الأعظم لهذه المستديرة المُدَلّلة، فلقد حطت رحالها في قطر، حيث تكمن هناك كما الماس المصقول بعناية لتتجمل به صانعات المجد من أمهات الابطال، وكما الشمس الحانية المدركة لحق أبناء هذه الأرض بالرأفة حين تشرق في العشرين من نوفمبر الجاري، وتنثر البرد والنسائم حباً وخيرات، تحملها السفن المُرتحلة في أحضان البحر والخليج، مرتدية أجمل عباءة نسجت من علم قطــــر، وتكاملت معه أعلام الأمم كلها، كيف لا؟، وقطـــــر اليوم العباءة الاصيلة المحتضنة للعالم في أروع لقاء تعشقه القلوب والعقول، وتصاغُ منه أحلام الأطفال في كل ارجاء العالــــــــــــم .
مشهدٌ تكامل من ذهب الرمال وصلابة الماس ورقيّ اللؤلؤ، إستُثمرت فيه كل الطاقات والخيرات ليصنع مجد اُمة وهوية بلد، تمرد على بعده الجغرافي وطبيعته الصعبة ومؤامرات الاقصاء وتحديات البقاء.
فكانت الاستدامة عنوان، والإبداع في تحقيق التميز ضمن مبادئها الأربع :- العدالة، والمساواة، والتمكين، وتوفير الفرص، فبنيَّ المكان ليكون لوحة يومية للناظر والمتبصر حتى تاريخ التاسع عشر من ديسمبر المقبل، ليكون بناءاً مرتحلا يصنع الوعد والأمل لدول تشتاق للعطاء عبر منح المونديال التطويــــر والاستدامـــــــــة .
هذا الوشاح المحيط بأعناق سمرة الوجوه، نسجت عليه لوحة بهية لثمانية ملاعب، لخصت الحكاية من قهوة الخيمة الى حضارة الاستدامة في المصادر والتجديد، وأحاطه أعناق صانعي المشهد الاخر لمبادرة جسدت نقاء المواطنة وصدق الانتماء للأرض، فكان التسابق لترحيل آلف وأربعين شجرة، تشربت غصونها قصص المروءة وتحديات الحياة، وجاءت بطوعية تمازجيه بين الانسان والشجر ليشمل الحب بقعة أخرى من قطـــر، فكانت قصة عشق خلّاقة تجسد الاستدامة للطبيعة والذكريات والتاريخ، لقد أبدعت العقول المحبة للوطن بتطوعية مجتمعية فريدة بان يشارك كل محب للوطن بجزء من مورثه العائلي والمكاني، ويساهم في تكوين جدارية حكايات الأشجار الاف وأربعين، التي التحمت جذورها بعد هذا الرحيل القصير مع تراب انتظر طويلا هذا اللقاء، لتتكامل مع رواية أُمة تستحق أن يُظلل حُلمها بخضرة الحياة، ورمزية فريدة تؤكد لكل من راهن أن الصحراء ساكنة برمال سطحها، متحركة مشاكسة في عواطف رحمها القادر على خلق حياة تليق بأمة هي قطـــــــر...