الأسرة الرياضية تُودّع "الشهيد الطائر" نشأت عصفور
رام الله- كتب محمد الرنتيسي/حينما نصنع التاريخ، ونقف على بوابات الزمن، ونحن لا نملك إلا إيماناً في القلب، وعلم الوطن في يد، وفي الأخرى حجر، وعندما ينطق الدم كل يوم في شوارعنا، ويرصف جنرالات الحجارة طريق المستقبل بحجارة فلسطين.. فإن الكلمات تصبح مجرد حروف صمّاء، ولا يملك الفرد فينا إلا أن يقف إجلالاً وإكباراً لينبوع الدم المتدفق، ونحن لا نملك سوى كلمات ليس أكثر.
إلى أبطال فلسطين، جبابرة الانتفاضة، الذين نفضوا غبار السنين عن الوطن السليب، وجعلوا المارد يزأر.. فأصبحت أغانيهم مع الحجارة، وأتقنوا عزف سيمفونية رائعة في حب الوطن.. فليقف العالم صامتاً لأبطال الحجارة، وليقف التاريخ إجلالاً وإكباراً لشهداء الوطن، الذين باعوا كل شيء، إلا الإخلاص لله، والوفاء للأرض وللقضية، وحينما يصبح «الموت» فرحاً، وتقدم التهاني بدل التعازي، لهؤلاء الذين قدموا دمهم على مذبح التضحية.. وحينما تُقدّم الحلوى بدلاً من القهوة السادة.. وعندما يسارع رياضيو الوطن، للتضحية بأغلى ما يملك الإنسان، في سبيل حرية وطنهم، عندها ليقف الاحتلال برهة، ويراجع حساباته.
بالأمس، كان الشهيد نشأت عصفور، إبن سنجل، النجم الذي سبق وأن توهج في ملاعب الكرة الطائرة الفلسطينية، أكان لاعباً أم مشجعاً، كان يزداد توهجاً، وهو يقود شبان الانتفاضة، في مواجهة قوات الاحتلال، التي هاجمت قريته كالكلاب المسعورة، كان ينتقل من مكان إلى آخر، تارة يرمي هؤلاء الجبناء بالحجارة، وهم يختبأون في آلياتهم، مذعورين من حجارته، وتارة يوجه زملاءه في المواجهة، إلى أن نال منه رصاص الحقد، ليرتقي شهيداً، ويروي أرض بلدته، سنجل، بدمائه الزكية الطاهرة. «أبو جمال».. الذي أكمل هذا العام عامه الـ(34)، تربى على حب الوطن، في عائلة تنبض وطنية، لم تسعفه سنوات عمره، للمشاركة بفعاليات الانتفاضة الأولى، «إنتفاضة الحجارة»، فحينها لم يكن يتجاوز السادسة من العمر، فكان من جيل الانتفاضة الثانية، «انتفاضة الأقصى»، وشارك في فعالياتها بقوة، وما أن انطلقت الانتفاضة الثالثة، حتى كان من أوائل المشاركين في التصدي لجبروت المحتل، وكأن الحنين إلى «الثورة» لا يخمد في نفوس من تذوقوا طعمها، ومنهم نشأت عصفور، الذي جبل على حب الوطن، والعمل الثوري المقاوم. كان خبر استشهاد نشأت، كالصاعقة على رؤوس من عرفوه، وأحبوه، فكما فرّحهم في حياته، أحزنهم في رحيله.. كان خفيف الظل، رقيقاً ليّناً مع إخوانه، وأصدقائه، صاحب روح مرحة، وإبتسامة واسعة، قريباً إلى القلب، يتمتع بروح الدعابة بشكل متزن، نشيطاً في شتى مجالات التعاون، والعمل التطوعي والخيري، والاجتماعي، يشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم، لا يمكن أن ترى في ملامحه أثراً لتجاعيد الوجه، أو أياً من العلامات الدالة على حزن خفي، أو متجذر.. لديه ملكة اختيار الوقت المناسب، لإلقاء المزاح على أصحابه.
بالأمس أيضاً، كانت سنجل محجاً للرياضيين، وغيرهم، جاءوا من كل فج عميق، يودعون شهيداً للمجد، تجمّع أحبابه، ومن رافقوه في مسيرته الرياضية، التي لم تنتهي، فما أن اعتزل اللعب مع فريقه، حتى ترأس رابطة مشجعي فريق الكرة الطائرة بنادي سنجل، الذي ظل وفياً له، إلى أن ارتقى شهيداً، حتى أن آخر ما خطه على صفحته على «الفيسبوك» كانت عبارات من التهاني لفريقه بحصوله على كأس السوبر قبل أيام، إلى جانب دعوة لأهل بلدته، للمشاركة في عزاء الشهيدين الشقيقين فادي وشادي خصيب، في قرية عارورة المجاورة.
في موكب التشييع المهيب، كان الحديث عن مناقب نشأت، وروحه الجميلة، الشغل الشاغل للمشيعين، يستذكرون حركاته و»قفشاته» الفكاهية، دون إغفال دوره على الصعيد النضالي، فكان يقطر وفاءً والتزاماً لقضايا وهموم أبناء شعبه، وذو شخصية مرموقة في قيادة التظاهرات الشعبية والجماهيرية، ضد الاحتلال. أودعناه الثرى، بعد أن طبعنا قبلة الوداع على جبينه، وتجولنا في الشوارع والأزقة، التي قاد فيها نشأت، المواجهات مع جيش الاحتلال، وقفلنا عائدين، عبر الطريق المتعرج، حيث تغلق قوات الاحتلال، المدخل الرئيس لبلدة سنجل، بالمكعبات الإسمنتية، كانت دموع المشيعين تخالط دموع السماء.. وكانت الشعارات الممجدة للشهيد تودعنا من كل جانب.. ومنها شعار يقول: "نزف إلى جماهير شعبنا أحد كوادر الانتفاضة الشهيد نشأت عصفور"