الفايروس" يُعرَي الاحتراف الرياضي!
بال سبورت : "
بقلم الباحث في سلك الدكتوراة – محمد رضوان الشريف
يعتبر الاستثمار في القطاع الرياضي من أكثر أنواع الاستثمارات نموا وتوسعا، ولقد تعددت منافعه وكلفه، وقدرت حجم الاستثمارات الرياضية السنوية العالمية 700 مليار دولار، وتمثل كرة القدم نسبة 80 % من حجم تلك الاستثمارات.
وبالتركيز على قطاع كرة القدم، الأمر لم يعد ترفيهياً بل تحول لأمر أكبر، وبالفعل انتبهت دول كبرى لهذه الظاهرة مبكرا وحولت عشق كرة القدم الى صناعة واستثمار يدر الدخل على الملايين ممن يعملون في مجالها.
وبالنظر الى حجم انتقالات اللاعبين في العالم نجد أنه وصل الى 7.35 مليار دولار في عام 2019 حسب التقرير السنوي الصادر عن الفيفا، بنسبة 5.8% بالمقارنة عن عام 2018.
وبالرجوع الى عام 2016 نجد أن حجم سوق انتقالات اللاعبين المحترفين في العالم وصل الى 6 مليار دولار، وفي عام 2012 كان الحجم المالي لسوق الانتقالات 2.66 مليار دولار، اذن فقط خلال الثماني سنوات الأخيرة رأينا حجم التضاعف في هذا السوق ووجدنا أنه تضاعف ب2.7 مرة .
في عام 1995 كان حجم انتقالات اللاعبين الى 400 مليون دولار !! أي بمعنى اَخر أن حجم الصرف على انتقال اللاعبين في كرة القدم في ما يقارب العشرين عاما تضاعف ثماني عشر ضعف .!!
وبالنظر الى منحنى الرسم البياني لأسعار ورواتب اللاعبين المحترفين في العشرين سنة الأخيرة من عمليات التعاقدات الرياضية، نجد أنها تتصاعد بشكل سريع وتكاد أن تكون تصاعداً عمودياً.
فحتى بالنسبة الى أجور اللاعبين فقد قفزت رواتبهم في العقد الأخير لأرقام خيالية وبات يحسب للاعب مقدار دخله في الثانية الواحدة من لحظة توقيعه للعقد، ومن المثير للدهشة أن هذا الأمر يتم بشكل قانوني ويحترم قانون اللعب المالي النظيف، تحت مرأى المشرع، فهل يستحق هذا "العمل" الذي يقدم اللاعب الرياضي المحترف ما يتلقاه بالمقابل ؟!
وهل يستحق هذا الشغف الرياضي وما يترتب عليه من انفاق لتحقيق "السعادة اللحظية" دفع هذه المليارات للعقود الرياضية ؟
في ظل انتشار وباء يجتاح العالم قفزت للسطح العديد من التساؤلات حول أولويات الانسان الحقيقية، حيث أنه في كل من اسبانيا وإيطاليا وغيرهما من الدول الأوروبية التي تتغنى بالعقود الضخمة والاحتراف الرياضي والتي تقوم بصرف مليارات الدولارات في هذا القطاع من شراء وبيع لاعبين ودفع رواتب فلكية للمحترفين الذين يمارسون كرة القدم على وجه الخصوص، عجزوا أمام متطلبات الانسان الأساسية وأهم حقوقه وهو الحق في الحياة.
هذا ما يدفعنا الى الوقوف ووضع علامات تعجب واستفهام كبيرة حول الاستثمار الرياضي بشكل عام! وكرة القدم بشكل خاص، أنه بشكل مبدئي يتنافى مع أدبيات الاقتصاد، وفي ظل الوضع الحالي الذي يعيشه العالم تبين أن الانفاق في هذا المجال يكاد أن يتنافى مع الفطرة الإنسانية وهي الحق في الحياة في ظل تدهور الوضع الصحي العالمي واحتياج العالم لهذه الأموال في القطاعات الأخرى المختلفة مثل القطاع الطبي والرعاية الصحية والأمن الغذائي والأمان والحماية العسكرية، فبالنظر إلى الأطباء والذين لهم مهمة هامة جدا وهي إنقاذ الأرواح، وتراهم في كثير من الأحيان يخاطرون بحياتهم من أجل مرضاهم وهو ما يحصل فعليا وقد سقط العديد منهم بسبب هذا الفايروس في الأيام القليلة الماضية، وأصبح الطبيب يتحمل الكثير من الضغوطات النفسية والعصبية بالإضافة إلى الجهد البدني الذي تقع مسؤوليته بالكامل على عاتقه، هل يكون من الإنصاف أن يكسبوا مبالغ كافية مع كل هذه المخاطر والتضحيات، وبالنظر الى أعلى دولة في العالم تمنح رواتب للأطباء نجد مثلا أن هولندا تقدم ما يقارب 250 الف دولار سنوياً في حين أن متوسط دخل اللاعبين في الدوريات الأوروبية يصل الى 315 ألف دولار في الأسبوع !!، ألا يدعو هذا الرقم للتساؤل وإعادة ترتيب الأولويات البشرية في الحياة، وإعطاء كل ذي أهمية حقه ؟
مع الاحترام الكبير للاعبين وقصر مدة عقودهم الاحترافية، إلا أن المرحلة التي نعيشها حاليا كشفت عجز الدول أمام فايروس لا يرى بالعين المجردة وقيمة الطبيب ورجل الأمن والمزارع في الحفاظ على الجنس البشري وضمان استمراريته، بعيدا عن الكماليات والشغف الرياضي الذي لا توجد له أي قيمة حالياً في العالم .
لذا يجب إعادة النظر في هذا القطاع وتقنينه بشكل سليم وغير مبالغ فيه، لأنه وبالرغم من التفات القطاع الرياضي إلى هذا الأمر وخروجه بقانون اللعب المالي النظيف 2011، الذي أجبر الأندية على توازن الدخل وعدم الوقوع في العجز المالي، لكن ذلك لم يمنع التزايد الكارثي لأسعار ورواتب اللاعبين، هذا يدفعنا للبحث عن جوهر لعبة كرة القدم، ولماذا تم إنشاؤها، وما هي أهدافها؟ نعم لقد كانت لعبة الفقراء، ولعبة المتعة والاستمتاع، فلا يمكن لأي من متابعي كرة القدم أن ينسى جمالية الأداء في الثمانينيات والتسعينات وحتى ما قبل ذلك، فقد كانت اللعبة الأكثر بساطة والأقل تكلفة، لتصبح اليوم لعبة الأثرياء والأكثر ملاءة ولا مكان للفقراء في المنافسة.
أما على صعيد اللاعبين فبات معظمهم يبحث عن الربح السريع، وبات نجوم اللعبة وكأنهم بضاعة معروضة في واجهات المحال الرياضية, لهم أسعارهم والتي تتم مقارنتها مع الاسعار السوقية لباقي اللاعبين لتزداد مطالباتهم حتى وصلت إلى أرقام غير مسبوقة، بل أن لاعبين قد يعتبروا من الصف الثاني أو الثالث عالمياً وجدوا لأنفسهم سوقاً رائجة في الدوري الصيني لتكون رواتبهم وعقودهم تناهز أعتى نجوم اللعبة في ظاهرة تنذر بالمزيد في السنوات القادمة! ، وحتى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي انتهجت نفس نهج الصين وتتعاقد مع لاعبين بأجور منافسة لأجورهم في أوروبا، فأين ستصل بنا كرة القدم؟ وهل فقدت كرة القدم رونقها والأهداف التي وجدت من أجلها؟ وهل ستعيدنا كرة القدم إلى سوق النخاسة؟
في النهاية يجب أن يسلط العالم الضوء في المرحلة القادمة ، مرحلة ما بعد وباء كورونا إلى أولويات واحتياجات هذا العالم، بدفع المليارات لقطاع يعتبر ترفيهي، ويوجد قطاعات أساسية أخرى تحتاج إلى هذه الأموال بل ويجب الادراك أن الرياضة والشغف الجماهيري تعتبر من الكماليات للإنسان، ولا يجب أن تأخذ أفضلية على حقوق الانسان الأساسية.