لنتعرف معا على المناضلة سميحة خليل التي يحمل دوري الدرجة الآولى لكرة القدم أسمها
وهي مقابلة صحفية مع زعيمة نساء الضفة الغربية – 1980، أخذت من ارشيف الراحلة، وأرسلها لنا نجلها سميح
العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية ؟
"المرأة الفلسطينية هي التي ستقهر إسرائيل"، هذا ما يقره جازماً مراسل إسرائيلي ينحصر عمله في المناطق المحتلة. سميحة خليل هي المرأة الفلسطينية بكل معنى الكلمة، أنها تعمل ضمن منظمات خيرية مختلفة بالإضافة إلى لجنة الإرشاد الوطني التي لها جميعها طابع سياسي بارز.
إلتقت "داليا قارفيل"، مراسلة مونتين، مع سميحة خليل وها هي ترسم صورة للزعيمة الشعبية، صورة القوة سياسية ترتكز على مزيج من الغيرة الوطنية ومن الماركسية الفلسطينية، من مساعدة المضطهدين ومن التضحية الذاتية.
تبدي سميحة خليل مؤخراً بعض علامات الخوف من الملاحقة والمطاردة، إنها تخاف من الحكم العسكري وهي متأكدة من أنه معني بتصفية نشاطاتها ويدعي أحد المقربين لها أن الحكم العسكري يراقبها ويتربص بها الدوائر مما جعلهم يقيدون حركتها وإن وجدوا ضرورة فباستطاعتهم عن طريق إصدار أمر خاص، اقصاءها عن وظيفتها، سألتها: هل أنت خائفة؟ فأجابت لا، لا أخاف من أي شيء ولا أخاف من أحد، بعد أن أطلقوا النار على كريم خلف وعلى بسام الشعكة بدأت تساورني بعض المخاوف وهذا أمر طبيعي. لم أخف على حياتي وإنما خفت على زوجي المريض من أن يبقى وحيداً لأن أبناءنا لا يستطيعون العيش معنا، أول شيء عندي عائلتي وزوجي والثاني إنقاذ شعبي وهو واجب مقدس وأن استمر بنشاطاتي في الجمعية، بعد إصابة رؤساء البلديات في الضفة، حضر إلينا بعض رجالنا حيث أرادوا حراسة بيتي في الليل فقلت لهم: لا إذا هم حضروا وأنتم بدون سلاح فأفضل أن أموت أنا على أن يموت الآخرون بدلاً مني " إن الله هو الذي يحميني".
يتعلم كل طفل في المناطق المحتلة بأن واجبه هو مقاومة إسرائيل. وفي رياض الأطفال التابعة لجمعية إنعاش الأسرة تُعَلَّم ريما ترزي نائبة سميحة خليل ومرشدة رياض الأطفال، أبناء الأطفال من جيل 3-4 سنوات نشيداً ألفته خصيصاً من أجلهم وإسمه: نشيد العصفور! يرتله الأطفال وهم متشابكو الأيدي "يا عصفورة، يا محظوظة، بينما أنا مضطهد وحزين، علميني أن أطير فوق أزيز الرصاص، علميني أن أكون حراً طليقاً".
وأوضحت لي ترزي بأن هذه الأناشيد إنما تهدف إلى تعليم الطفل أن يحب وطنه بشكل بناء كما تعلمه أن يصلح الضرر الذي سببه الإسرائيليون "أولادنا يعيشون في خوف دائم وعلكيم أيها الإسرائيليون أن تتخوفوا من عواقب هذا الوضع حيث ينشأ أبناؤنا في جو من الاضطهاد والكبت. ثم استطردت ترزي تقول: بأن هذه الأناشيد تهدف إلى تنمية الروح المعنوية لدى الأطفال لا إلى تنمية الكراهية. "وهناك فرق بين الأمرين حسب قولها."
سُلَّم الاخلاص الفلسطيني
"المرأة الفلسطينية هي التي ستقهر إسرائيل"، هذا ما أفصح عنه المراسل الإسرائيلي الذي يغطي أخبار المناطق المحتلة بمناسبة تغطيته للإضراب عن الطعام من نساء فلسطينيات في نيابة الصليب الأحمر في القدس الشرقية.
سميحة خليل هي المرأة الفلسطينية بكل معنى الكلمة وهذا التقرير يتحدث إذن عن بطلة فلسطنية وعن نوع من التعامل مع عالم من المفاهيم مجهول لغالبيتنا كما يتحدث عن عداء قومي صلب مع الجانب الإسرائيلي.
لم تظهر في الضفة الغربية حتى الآن حركة نسائية على النمط العربي حيث أن الأيديولوجية التي تصاحب الحركة النسائية بشكل عام هي أيديولوجية رائدة بالنسبة إلى الحالة الفلسطينية وربما كانت غير ضرورية، آمال الإستقلال وحق تقرير المصير القومي تجعل من عصر المطالبة بمساواة المرأة بالرجل بالنسبة لهذه النسوة أمراً زائداً وكماليا. إن المقابلة مع سميحة خليل هي مقابلة مع حركة نسائية سياسية، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين أبوا الا أن يرتادوا النشاط السياسي من خلال الأطر النسائية.
لا يعرف الجمهور الإسرائيلي المرأة الفلسطينية بشكل فعلي وصحيح، والصورة الحالية لهذه المرأة هي نتاج التقارير التلفزيونية التي عرضت أو قدّمت نساء ذوات صفات تقليدية أو طالبات متظاهرات وهن يصْرخن ويقذفن الحجارة. لا يعرف الإسرائيلي بشكل عام أن المرأة الفلسطينية تشكل قوة سياسية مادية وبشرية لا أقل من المنظمة أو من الطلاب الذين يتظاهرون في الجامعات.
إن التعارف الذي تم بين بعض الإسرائيليات والفلسطينيات مثل ريموندا الطويل وفدوى طوقان وسحر خليفة، لا يعكس الوضع الحقيقي بشكل دقيق، فريموندا الطويل تنعت من قبل معارضيها بـ "المباعة لليهود".
للفلسطينيين إذن تدريج وتفاوت خاص بهم في الاخلاص أقامت ريموندة الطويل- التي تعلمت في الجامعة العبرية- علاقات مع رجال اليسار الإسرائيليين كما وتأثرت بهم الشاعرة المشهورة بنت نابلس - فدودى طوقان-، بينما تذكر سحر خليفة بأنها لم تحصل من الرقابة على إذن لإصدار كتابها الجديد "عباد الشمس" باللغة العبرية وكل ما يجمع النسوة الثلاث هاته هو إقامتهن لحوار مع الإسرائيليين وكذلك ظهورهن في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
انهن تَعَدين حاحز الخوف
قامت في سنة 1968 وبعد مرور سنة على ضم المناطق لدولة إسرائيل، عمليات التمرد المدني (العصيان) والتي نظمت من قبل لجنة أسمت نفسها بلجنة الإرشاد الوطني وكانت قد ضمت بين صفوفها إمرأة باسم "زليخة الشهابي" التي قادت النساء الفلسطينيات لأول مرة كجزء من النضال ضد دولة إسرائيل. بعدها طردت زليخة للأردن.
منذ ذلك اليوم تَعَدّت نساء فلسطينيات كثيرات حاجز الخوف، إن نشاطات هذه النسوة من خلال النضال العام ذات وزن وأهمية على الرغم من أن هذه النشاطات لم تحتل عناوين الصحافة الإسرائيلية بصورة مستمرة، ولا بد لنا من أن نذكر أن القيادة السياسية الفلسطينية تعرف أن تستغل نساء الأراضي المحتلة بشكل جيد حيث لا توجد في الضفة الغربية أية منظمة سياسية تخلو من تمثيل للمنظمات النسائية.
الدور ثابت
لا تستطيع إلا أن ترى أن كل عملية احتجاجية تبدأ بنشاطات نسائية معينة. ولقد ظهر هذا من خلال نضال بسام الشكعة من أجل تحسين ظروف السجناء في سجن "نفحة" وكذلك من خلال النضال ضد مشروع الحكم الذاتي.
لا تشترك كل النساء في العمليات الاحتجاجية ولكن عقائل الرجال السياسيين هن اللواتي يشاركن في مثل هذه النشاطات وعلى سبيل المثال زوجة أنور نسيبة وزوجة بسام الشكعة عناية الشكعة، وإلهام جار الله كريمة حكمت المصري الذي كان يشغل منصب رئيس البرلمان الأردني وأخريات يشغلن النواة للنساء المتظاهرات، ومن غير الممكن لغاية اليوم تجنيد مئات النساء لإشراكهن في المظاهرات أو الإضرابات من اجل القضايا السياسية أو الوطنية، وفي الوقت الذي تنظم فيه نشاطات من أجل تحسين أوضاع السجناء، تشارك زوجاتهم وأمهاتهم وقريباتهم في هذه النشاطات وهذا ما حدث في الاضراب من أجل الشعكة حيث نظمت النشاطات على أساس شخصي أولا كما أنه لم يقم في الضفة الغربية إضراب نسائي من أجل الحصول على حقوق المرأة الفلسطينية داخل المجتمع.
نحن المتحكمون سياسياً
حينما أقيمت لجنة التوجيه الوطني في الأول من أكتوبر سنة 1978 في مبنى المنظمات المهنية في القدس الشرقية، انتخبت سميحة خليل التي تطلق على نفسها "المناضلة من أجل السلام" كممثلة وحيدة لكل النساء في الضفة.
كان الهدف من وراء إقامة اللجنة إفشال الحوار بين ياسر عرفات والملك حسين ولقد تطورت هذه اللجنة مؤخراً لتصبح أقوى جسم في الضفة الغربية هذا الجسم الذي نظم كل العمليات الاحتجاجية في الأراضي المحتلة ولقد قال أحد أعضاء هذه اللجنة البارزين وهو الدكتور ابراهيم سليمان رئيس بلدية البيرة "تسيطر إسرائيل من ناحية أمنية وأما نحن فنسيطر من ناحية سياسية".
اختيرت أم خليل لهذا المنصب بسبب قربها من كريم خلف رئيس بلدية رام الله وبسبب انتمائها الايديولوجي الوطني لليسار. ومن المعروف أن لجنة التوجيه الوطني توقفت عن العمل بعد طرد رئيس بلدتي الخليل وحلحول وبعد إصابة رئيسي بلديتي رام الله ونابلس وبعد إصدار أوامر الإقامة الجبرية بحق غالبية أعضاء اللجنة في 8 اغسطس 1980.
صدر أمر الاقامة الجبرية كذلك بحق سميحة خليل وبهذا شلَّت نشاطاتها في مجلس التعليم العالي في الضفة، ذلك الجسم الذي أدير من قبل رجال سياسيين واهتم بتنسيق النشاطات الوطنية بين الجامعات الأربع في الضفة كما تطلع لإقامة جامعة أخرى في "أبو ديس" بالإضافة لتدخله في برامج التعليم، غير أن الحكم العسكري أحبط هذا التخطيط.
إنضمت سميحة خليل إلى مجلس التعليم العالي بحكم أنها مؤسّسة ومديرة للجمعية الخيرة "انعاش الأسرة". هذه المؤسسة التي تعمل من جملة ما تعمل على إقامة دورات مهنية للبنات ولكن حقيقة تعيينها في المجلس نابع من كونها عضو لجنة التوجيه الوطني التي تطلعت لإدخال رجالاتها إلى أكبر عدد ممكن من المؤسسات في الأراضي المحتلة.
الللقاء مع سميحة خليل وهي امرأة فريدة من نوعها وضعني أمام امتحان شخصي. بدت سيمحة خليل لأول وهلة وكأنها قالب مصقول بإتقان ومثير لنوع من التقدير وذلك لقربه وحسمه وإخلاصه الوطني واستعداده للتضحية الذاتية.
مظهرها بسيط وشعبي ومؤثر جدا. وشخصيتها تتكون من صفات تراها لأول وهلة تتناقض الواحدة مع الأخرى طموحة جداً، صلبة كالفولاذ، لا تعرف اللين، فخورة متمسكة برأيها، فريدة من نوعها، مثالية، جريئة جداً، قوية بطابعها، مستقيمة كريمة وطيبة القلب.
سميحة خليل هي نموذج الفلسطيني الذي رفض أن يتعامل مع الإسرائيليين ولذلك فكل ما تقوله هو وجهة نظر فلسطينية بعيدة عن المؤثرات الإسرائيلية، هذه هي ميزتها وهذا هو أهم ما فيها: مسلمة متدينة بدون تزمت، ورعة، متمكنة جداً، كما أن انجليزياتها ركيكة.
إذا لم تشوهي كلامي
قابلتها لأول مرة في مكتبها في البناية الفخمة بجمعية انعاش الأسرة، جميعة تحسين مكانة المرأة والعائلة، غرفتها واسعة ومليئة بالنور، الباب مفتوح والناس يدخلون ويخرجون دونما انقطاع. جَلَسَتْ خلف طاولة كبيرة وتحدثت إلى اثنين من الموظفي. حينما دخلت وقفت وصافحتني ودعتني للجلوس. صَوَّبَتْ نحوي نظرة فاترة، أكدت لي من خلال التلفون من قبل بأن المقابلة مشروطة بأن لن أحصل منها على مقابلة صحفية لأنها لا تقابل صحفيين إسرائيليين وحينما عرضت عليها أن فكرة اللقاء بين امرأتين قد تولد حواراً قالت: فلنلتق وخلال نصف ساعة تحدثنا عن مواضيع عامة. كاد عدم الثقة أن يصل إلى حد الاحراج حيث حقيقة كوني إسرائيلية جعلت مني عدوة ومحتلة وهذا شعور صعب. وفجأة أخبرتني بأنها مستعدة للإجابة على أسئلتي، وأنها تنظر إلى هذه المقابلة كتجربة (Test Case) "إذا لم تحرفي أقوالي فسأوافق في المستقبل على مقابلة صحفيين إسرائيليين آخرين" ، لا لشيء إلا أن قضية بسام الشعكة لقنتني درساً".
وفعلاً كانت حذرة على طول الخط، ورفضت الإجابة على المواضيع السياسية البارزة مثل نشاطها في لجنة التوجيه الوطني أو مواقفها السياسية. وأخيراً رفضت التقاط صورة لها "نحن النساء يجب أن نتواضع"، بالنسبة لإمرأة من قبل مركزها ربما كان ظهورها بالألوان على صفحة مجلة إسرائيلة عملاً تهورياً.
سيل من الأموال
حينما التقينا ثانية في المكتب كان يرافقها زوجها السيد سلامة خليل وهو تربوي كبير متقاعد متمكن جدا من اللغة الانجليزية. حضوره كان أساس لكي يراقب الأمور عن كثب. أما هي فبدت مرتاحة أكثر. وأخيراً أصبح من الممكن أن نشعر بلطافتها وأنوثتها. قالت في نهاية الحديث "برفقتك أشعر بالراحة، لقد وضعنا لبنتين لبناء الثقة بين الشعبين، وحينما سينتهي الاحتلال ستكونين الإسرائيلية الأولى التي يستضيفها بيتي".
وللحظة بدا الأمر وكأنه مجاملة كبرى، الأنا (The Ego) الليبرالي حظي بتواضع ذاتي، وحينما أعدت التفكير ثانية فهمت أنها مجاملة مشكوك في أمرها، فهي تطوي في ثناياها معاملة مزدوجة للإسرائيليين تسير سوية مع فجوة هائلة في المعلومات المرتبطة بكل ما هو متعلق بدولة إسرائيل. سمحية خليل تمثل هؤلاء الذين يقللون من مدى متابعتهم لما يجري في إسرائيل وهؤلاء الذين خلقوا لأنفسهم إسرائيل خيالية. قسم منهم يرى إسرائيل المنهارة المنحنية تحت وطأة التضخم المالي والمشاكل الاجمتاعية والمخدرات والجريمة، وقسم آخر يراها دولة قوية تعتمد على اللوبي اليهودي بأمريكا والدولة صاحبة النوايا القومية التي تشكل تهديداً على العرب.
"لم أسمع عن وجو فقر في إسرائيل"، قالت لي أم خليل "لقد سمعت عن أنهار من الأموال تتدفق إليكم من أمريكا". سميحة خليل غير مهتمة بما يجري داخل إسرائيل. تقاس إسرائيل بالنسبة لها بما تفعله ضد الفلسطيين. كل ذلك على أرض الحقيقية التي تقول بأن جريدة الفجر التي تصدر في الأراضي المحتلة والتي يوجد لها ممثل في لجنة التوجيه الوطني وهو مأمون السيد من رام الله ، تكرس كل يوم صفحة كاملة لتراجم من الصحف الإسرائيلة حول موضوع النقاش في الكنيست وحول الاقتصاد والمهاجرة من إسرائيل بالإضافة إلى الفقر والجيش وغير ذلك.
دراسة بسن الثانية والأربعين
ولدت سميحة خليل في قرية عنبتا، ولم تكن أمها وهي ابنة عائلة طوقان امرأة مثقفة. عمل أبوها مدة 36 عاماً رئيساً لبلدية عنبتا إلى أن انتقلت العائلة إلى طولكرم لتتمكن الابنة سميحة خليل من الدراسة في المدرسة الابتدائية للبنات. وهي لم تنه تعليمها الثانوي في مدرسة الفرندز في رام الله، لانها تزوجة من التربوي سلامة خليل مدير مدرسة قلقيلية حينئذ بالطريقة التقليدية المتعارف عليها في تلك الأوقات. وعلى مدى 25 عاماً كانت امرأة مخلصة لبيتها ولأولادها الخمسة. وحينما كبروا قررت أن تكمل دراستها وكانت في سن الثانية والأربعين، فقدمت التوجيهي في الأردن وفي الحال تسجلت لدراسة الأدب العربي في جامعة بيروت العربية بالمراسلة حيث بدأت تدرس في بيتها على مدار السنة وكانت تسافر من حين لآخر للجامعة العربية في بيروت للامتحان. لم تحز على لقب البكالوريوس بسبب اندلاع حرب عام 1967 كما أنها مُنعت من مغادرة الضفة الغربية حتى عام 1973.
رجال المخابرات يبحثون عن المعلومات
سميحة خليل قصة متطورة في هذا المضمار، تلك القصة التي تتغذى على الضمير المتعثر لإسرائيلية مثلي. إنها تقص حكاية لاجئ 1947 "تعودت أن أطِل من شرفة بيتي في غزة وأن أرى القرويين النازحين من قرية الجورة حيث النساء تجر الأمتعة ويمشي الأولاد وراءهن وهم يرددون أناشيد حزينة عن الاحتلال الإسرائيلي. أما الفتيات بنات السبعة عشر عاماً فقد تعودن طرق أبواب بيتنا يطلبن أن نشتري منهن الحطب ورغم أنه كان رطباً وغير صالح للاستعمال. وقد كنا نشتريه لأنهن بحاجة لشراء الحليب لأطفالهن. في نفس السنة صادرت السلطات الإسرائيلة أملاك أبيها التي تقع غربي طولكرم. وهذه قصة أخرى. بعد ذلك بعدة سنوات تروي القصة أم زوجها التي مكثت شهوراً تنتظر إذناً خاصاً بجمع شملها. جئنا لمقابلتهم في بوابة مندلبودم في القدس، وقد تركت بناتها في الطيبة لتعيش معنا في رام الله، وكانت لوعة الفراق شديدة عليها لدرجة أنها فارقت الحياة بعد 22 يوماً.
رَبَّتْ سمحية خليل أبناءها الخمسة ليكونوا صالحين لأنفسهم وليحسنوا للآخرين. وأن يكتفوا بالقليل من أجل أن يعطوا أوقاتهم وقوتهم ومالهم للآخرين. وبطبيعة الحال فالمقصود من الآخرين هو مصحلة الشعب وهنا نحن نرى الأنباء يقتنون أثر الأم.
أم خليل تدفع الثمن بكبرياء حيث يعيش أبناءها بعيداً عنها بينما هي محرومة من رؤيتهم، إبنها البكر خليل (36 عاماً) هو مهندس إنشائي، ابنها الثاني ساجي (34 عاماً) فقد قضى سبع سنوات في السجون الإسرائيلية بتهمة نشاطات معادية حيث اعتقل سنة 1967 بعد الحرب مباشرة ويعيش اليوم في عمان، حيث تعيش بنفس الوقت اخته سائدة (35 عاماً) أما ابنها الرابع سمير (30 عاماً) فيتخصص في موضوع طب الأطفال في موسكو وابنها الأصغر سميح (29 عاماً) فيدرس هندسة النفط في الجزائر.
حينما رفضت سمحية خليل أن نلتقط لها صورة في أعقاب هذه المقابلة ثار بيننا نقاش حول معنى وأبعاد ظهور الصورة من على صفحات الجريدة الإسرائيلية. وفجأة ثارت غاضبة بصورة لم تفعلها في مقابلات سابقة. ثم سردت قصة عنيفة تدور حول ابنها الصغير الذي تحبه أشد الحب ففي سنة 1972 قدم ابنها سميح من ايطاليا ليلة زواج ابنها البكر كي يشارك العائلة أفراحها إلا أنه اعتقل ليلة زواج أخيه من قبل رجال الأمن للتحقيق، وحسب أقوالها فقد ضرب ابنها وعذب بقسوة.
"ابني لن يصبح جاسوساً حتى لو قتلتموه". وعندما لم يطلق سراحه بعد عدة أيام ساورها القلق. إذ يعاني إبنها سميح من مشاكل في القلب، وقد خافت على صحته أن لا تصمد في التحقيق. كما أن اقتحامها الجنوني لمكتب الحاكم العسكري، "المرة الوحيدة في حياتها لحد قولها"، لم يأت بفائدة. وفقط بعد مرور عشرة أيام سمح لها بزيارته في سجن المقاطعة في رام الله. ويا للسخرية! فقد عينت المقابلة مع ابنها في غرفة التحقيق حيث زُجّ ابنها إلى الداخل وظهر كأنه شبح من الأشباح، فقد كان يرتدي قميصاً ممزقاً بدون عرى، وبدا أنه فقد منوزنه ما لا يقل عن 8 كيلو غرامات. عانقته بقوة، وتأكدت من صلابته. وقد تم إبعاده وانتقل من إيطاليا إلى الجزائر واضطر أن يبدأ دراسته من جديد. هناك قصص كثيرة مثل هذه قد تضطرك إلى المكوث هنا أربعة أيام متتالية.
100 دينار – 400 ألف دينار
أسست سميحة خليل في سنة 1965 جمعية خيرية باسم إنعاش الأسرة، وكجمعية نسائية وضعت نصب أعينها هدفاً أساسياً هو مساعدة المرأة والعائلة وتحسين أوضاعها. وقد حظيت الجمعية حين تأسيسها في ظل الحكم الأردني بدعم رجال سياسيين معروفين بآرائهم المتشددة من بينهم عبد الجواد صالح الذي شغل منصب رئيس بلدية البيرة سابقاً والذي تم إبعاده من قبل الحكم العسكري في سنة 1976 سوية مع بعض نشيطي الحزب الشيوعي في الأراضي المحتلة. وكان صالح عضو منظمة التحرير النشيط في تلك الأيام قد ساوى قبل طرده بين معاملة إسرائيل لعرب الأراضي المحتلة ومعاملة النازين لليهود. ولهذا السبب اعتقل وأُبعد إلى خارج الأراضي الفلسطينية. وبالإضافة إلى هذا فقد حظيت الجمعية بتأييد كل من الدكتور طوباسي الذي يحسب هو الآخر من عداد المبعدين.
وكما تقول أم خليل: فكل شيء بدأ بالأعمال التطوعية من أجل اللاجئين. وقامت هي وبعض رفيقاتها بجمع الملابس والمواد الغذائية والمال ووزعوها على الناس. "تعودتُ أن أرى صفاً طويلاً من الرجال ينتظر قليلاً من الزيت والطحين من وكالة الغوث الدولية. تلك الوكالة التي تسلمت في السنة الماضية 12 مليون دولار كدفعة أولى من المملكة العربية السعودية لسد العجز في مزانيتها. لقد سئمت هذا المنظر. وقلت بين وبين نفسي "لماذا حكم على هؤلاء أن يعيشوا وهم ينتظرون الرحمة؟" لذلك، قررت أن أعمل شيئاً من أجل شعبي. لقد افتتحت دورة لتدريب ثماني نساء .. (!!). وعندما لاحظت سميحة خليل ردة فعلي، نظرت إلي باستهجان قائلة وإن كان العدد قليلا، فماهي إلا البداية، وعلى كل حال، فإنه "من الأفضل أن نضيء شمعة في كل يوم من أن نبكي سنين في الظلام".
أسست سميحة خليل هذه الجمعية برأسمال أولي مقداره 100 دينار أردني استلفتها من رئيس بلدية البيرة عيد الجواد صالح. وفي العام الماضي بلغت ميزانية الجمعية 400 ألف دينار. كان عدد المتدربات سنة 1960 حوالي ثمانية، أما اليوم فيصل عددهم إلى 225. وتخرج الجمعية في كل سنة 150 شابة. وكانت الجمعية قد بدأت بغرفتين مستأجرتين، وهي اليوم تملك الجمعية بناية من ثلاث طوابق تحوي 32 غرفة عدا قاعات المحاضرات. تقدر سميحة خليل البناية وأثاثها بما يساوي مبلغ مليون دولار. هذا وقد أصبحت جمعية انعاش الأسرة المنظمة النسائية الرئيسة التي تعد نموذجاً يحتذي حذوها 200 جمعية أخرى قامت في الضفة الغربية على أثر ذلك.
روح واحدة في أجسام شتى!
لقد وسَّعتْ الجمعية برامجها ونوعت خدماتها، بعد أن أقيمت لسد حاجات النساء الاجتماعية. وبما تجدر الإشارة إليه هو أن الجمعية نشرت تقريراً عن نشاطاتها ووزعته في خارج البلاد وذكرت فيه بأن الجمعية تخدم الشعب الفلسطيني من أجل إقامة دولة فلسطينة وتعميق الأهداف في قلوب أبنائنا الذين سقطوا ضحايا على ساحة الوطن. وقيل في التقرير أيضاً أن الجمعية وضعت نصب أعينها مساعدة المحتاجين الذين لا يستطيعون إعالة أنفسهم وأبناء عائلاتهم وكذلك تطوير وتشجيع الأشغال اليدوية المحلية والتصنيع الزراعي.
تعمل في الجمعية اليوم خمس لجان رئيسة:
1. لجنة الثقافة المسؤولة عن برامج التعليم لأكثر من 1000 طالب، وعن مكتبة تضم 4000 كتاب وتقوم بتوزيع المنح الجامعية التي تعطى فيها الأفضلية لأقرباء السجناء أو الشهداء ضحايا الحرب المقدسة. وتشرف اللجنة على دورات السكرتارية والتوظيف والمكتبات ومراكز محو الأمية في مناطق رام الله والبيرة.
2. لجنة العناية بالطفل حيث ترعى أولاد الشهداء والسجناء والأطفال وتدير رياض الأطفال ومراكز رعاية الأمومة.
3. لجنة الأشغال اليدوية التي تقيم دورات سنوية للخياطة والحياكة والتطريز الفلسطيني. هذا وتَشغَّل الجمعية حوالي 1500 فتاة في مختلف قرى رام الله والبيرة على مهنة التطريز وتسوق منتجاتهن في المعارض والبازارات.
4. لجنة الأعمال البيتية التي تقيم دورات في التدبير المنزلي وهي المسؤولة كذلك عن انتاج وبيع مختلف أنواع البسكوت والكعك والأغذية المعلبة.
5. لجنة الفولكلور الفلسطيني التي تهتم بجمع وتسجيل الفولكلور الفلسطيني بالإضافة إلى إصدار مجلة فصلية تحمل اسم "التراث والمجتمع" (وهي مجلة فولكلور وبحث للحضارة) من إصدار جمعية انعاش الأسرة. ويقوم بتحرير هذه المجلة بعض من أساتذة جامعة بيرزيت بإدارة البروفسور عبد اللطيف برغوثي. كما أنها تضم مقالات في مواضيع ثقافية وأدبية ونقدية. فمثلاً ظهر مقال في عدد نوفمبر 1980 يبحث بتحليل انتاج الشاعر الفلسطيني محمود درويش. وظهر مقال أخر يبحث في تحليل الأمثلة الشعبية القديمة. كما يوجد فصل آخر على هيئة سلسلة مقالات كتبه المحرر عن مصطلحات وتعابير فلسطينية خاصة.
هذا نشاط سياسي واضح وجلي
يُجْمَعُ التراث الفلسطيني ويُسجل في متحف الفولكلور في الجمعية الذي تأسس سنة 1972. وهناك عينات من ملابس تقليدية للقرى الفلسطينينية من مختلف المناطق. ويوجد صحف عربية من عهد الانتداب ونقود وجرار خزفية وغيرها. وتحت نفس العنوان "رعاية الفولكلور والتراث"، تركز التفاصيل بكل ما يتعلق بمصادرة الأراضي والأضرار التي لحقت بالفلسطينيين وممتلكاتهم والاعتقالات غير الشرعية، وجميعها تحتل جزءاً من الشواهد على تاريخ الشعب الفلسطيني. بالإضافة إلى ذلك تعطي الجمعية دورة في الإرشاد الوطني وهي عبارة عن دروس إعلامية هادئة مثل قصائد الشعراء الفلسطينيين أو تفاصل عن "عجائب الحكم العسكري".
ولكي تستطيع الجمعية تسويق توجهاتها للشباب، فإنها تقوم بتزويدهم بالغذاء الروحي الوطني. وقد أطلق الحاكم العسكري على الجمعية إسم "بيت الدبابير". وبوجب تعليماته فيتوجب على الجمعية الحصول على إذن مسبق من الحكم العسكري بالنسبة للتعيينات الجديدة. كما يحظر عليها تعيين رجال سياسين في مجلس الإدراة. إلا أن سمحية خليل قامت بإدخال من الباب الخلفي رؤساء بلديات قضاء رام الله والبيرة، وممثلين آخرين عن المنظمات الشعبية في مناصب رمزية قامت بتشكيله خصيصا. ولهذا فإنها تحوز على دعمهم السياسي والاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى تضمن للجمعية توع من الحماية من الناحية السياسية. وعلى هذا الأساس فقد شغل كل من كريم خلف وابراهيم الطويل وعبد الجواد صالح مناصب رؤساء لجان. غير أن هذه المناصب لم تكن سوى مناصب رمزية وهؤلاء لا يشغلون أي منصب إاري فعلي داخل الجمعية.
تُشغَّل الجمعية اليوم 64 موظفا وموظفة بوظائف كاملة. غير أن أم خليل ونائبتها ريما ترزي وبقية أعضاء الإدارة يعملون جميعاً بصورة تطوعية. وقد قالت لي سميحة خليل "نحن روح واحدة في أجسام مختلفة".
تساعد الجمعية 160 طالباً و 114 طفلاً و 130 عائلة فقدت معيلها. ومنذ سنة 1967 ولقد صرحت سميحة خليل بأنها ليست على استعداد لاستلام قرش واحد من إسرائيل. وكانت قد رفضت فعلا مساعدة وزارة الشؤون الاجتماعية، كما رفضت تبرعات منظمة اجتماعية أمريكية تدعى "أنيرا". "أنا لا أمدُ يداً للذين يعملون ضد أهداف أمتنا العربية" هكذا صرخت سميحة خليل رغم حاجة الجمعية لكل قرش من أجل تحسين أوضاعها. وفي العطلة المدرسية، تفتح أم خليل أبواب الجمعية أمام بنات المغتربين الفلسطينيين القادمين للضفة خلال العطلة الصيفية. وتقول أم خليل بأنها تسعى لصقل شخصيات الفتيات الفلسطنيات "من أجل أن يحافظن على أنفسهن وعلى قضيتهن". كما تعمل اليوم من أجل إقامة بيت للبنات اليتيمات في رام الله، وإقامة منزل مفتوح لفتيات الجمعية القادمات من جميع أنحاء الضفة الغربية اللواتي لا يملكن مأوى للنوم في المدينة.
هناك مكان لسميحة خليل واحدة فقط
منذ سنة 1978 وسميحة خليل لا تكتفي بالنشاط الاجتماعي فقط، بل تشارك في تعاظم الثقافة الفلسطينية وما تؤدي إليه من تعظيم الثقة بالنفس. ويقوم المسرح الفلسطيني بتقديم عروض أصيلة من على المنصات المرتجلة هنا وهناك. كما يقوم الفنانون الفلسطينيون بعرض رسومهم. وغالباً ما تكون فنوناً سياسية مباشرة. ولقد منعت السلطات الإسرائيلية في المدة الأخيرة إقامة معرض فني كان من المزمع إقامته في بيرزيت. هذا وتجوب الطالبات في رام الله الشوارع وهن يرتدين ألـ "تي شيرت" الذي يبرز عليه شعار "فلسطين أرضي". ولقد طلبت لجنة التوجيه الوطني من سميحة خليل مشاركة النساء والفتيات مباشرة في النضال من أجل تطوير الشخصية الفلسطينية في الأراضي المحتلة.
حتى عام 1979 لم تكن سميحة خليل تظهر في الاحتجاجات الشعبية. أما بالنسبة لهذه السنة، فكأنما طرأ تحول ما في شخصيتها. فعندما اعتقل بسام الشكعة إثر محادثته مع الجنرال داني ماط، أقيمت احتجاجات كبيرة تأييداً له في كل من نابلس ورام الله وبيت لحم ومدرسة الفريندز حيث خطب فيها تلاميذ من بيرزيت بالإضافة إلى شقيق "أودي أدبب" ممثل حركة ماتسبين الإسرائيلية اليسارية وكذلك ممثل الجبهة الوطنية التقدمية وهو من عرب 48 وسميحة خليل.
وحينما صعدت أم خليل إلى المنصة استقبلت كبطلة حقيقية حيث تحدثت عن حق الشعب في الحياة مرددة أبياتاً من قصيدة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوم أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
تحدثت سمحية خليل عن "الخريطة الجديدة" في الضفة. وهي تستعمل كثيراً من الشعارات التي هي في الغالب شعاعات جماهيرية ويسارية مع أنها ليست عضواً في أي حزب يساري. وعلى سبيل المثال فعندما تحدثت عن القاعدة الشعبية نراها تستعمل تعبير "توجيه الجماهير" أو "مساعدة الجماهير". إن ما يميز أم هليل حقا عن تنظيمات كثيرة في الضفة الغربية، هو أنها تعمل على تحقيق هذه الشعارات ولا تكتفي بترديدها فقط.
يقولون أن الرغبة في الظهور قد أصابت عدد من النساء المتطلعات إلى احتلال مكان المرأة الأولي في الضفة. إلا أن هناك من يقول بعدم وجود مكان لأكثر من امرأة أولى واحدة، أو لأكثر من سمحية خليل واحدة في المجتمع الفلسطيني وهو مجتمع شرقي. تقول ريموندا الطويل على سبيل المثال بوجود التمييز بين سميحة خليل وبين وظيفتها هي. حيث أنها تنقل وجهات نظر الفلسطينيين لإسرائيل وللعالم. بينما لا تستطيع سمحية أن تتكلم بلغة الإسرائيليين والأوروبيين. وبعكس ذلك، تنجح سميحة خليل، التي ترتدي في أغلب الأحيان لباساً غامقاً وتضفر شعرها إلى الخلف، في أنها تنتزع الاحترام لنفسها ولشعبها في الغالب من خلال العمل داخل الشعب نفسه. إن سيطرة سميح خليل باتت معروفة للجميع. ففي اللقاء الذي تم بين رؤساء الجمعيات الخيرية وحاكم رام الله العسكري وبحضور مندوب الشؤون الاجتماعية الذي عرضا آرائهم على الحضور، انتهزت إحدى المديرات الفرصة ووقفت وقالت بأنها ترى أن تستغل هذه المناسبة بتوجيه طلب من الحاكم لعسكري، فما كان من أم خليل إلا أن منعتها من الكلام فسكتت وجلست. ليس هناك مناقشة في سلطانها، كما أنها توزع التوجيهات على غالبية الجمعيات الخيرية الفلسطينية.
الضفة الغربية أم يهودا والسامرة
حظيت أم خليل بتصفيق حاد ومتواصل في اجتماع في بيت لحم. وكان هذا التصفيق بسبب شخصيتها أكثر مما كان بسبب ما تفوهت به. وحتى هذا اليوم، وبالرغم من نشاطاتها، فينظر إليها كرمز، وخاصة في الأوساط القيادية السياسية. لقد أصاب محمد ملحم رئيس بلدية حلحول كبد الحقيقية في نهاية اجتماع بيت لحم المذكور عندما قال "هؤلاء النسوة هن الخميرة والشعلة وليسوا رمالا متطايرة في مهب الريح بعد الاشتعال".
تشعر سمحية خليل بالعزلة في هذه الأيام. حيث أن تصفية لجنة التوجيه الوطني وأمر الإقامة الجبرية الذي صدر بحقها أعادها إلى المعايير المحلية. فتتظاهر وكأن باستطاعتها الاستمرار في النضال، إلا أن مركزها في الحقيقة تضعضع. حيث بدون كريم خلف رئيس بلدية رام الله الذي يتعالج في الولايات المتحدة وبدون تأييد السياسيين المرموقين لم يبق لها سوى أصدار البيانات. وها نحن نرى الحكم العسكري يضيق عليها الخناق ويحد من تحركاتها.
بقيت مسودات مقالات مجلة "التراث والمجتمع" ستة أشهر في مكاتب الرقابة العسكرية مما أعاق صدور المجلة. كما أن سمحية خليل تعودت أن تقيم كل عام مهرجاناً للفولكلور مع آلاف المدعوين وكان ريعه يصل إلى أكثر من 5000 دينار. إلا أنها مُنِعَتْ هذا العام من إقامته. وحينما طلبت أن تقيم الوجبة التقليدية "عشاء المجدرة" (الأكلة الشعبية الفلسطينية) والتي تجمع التبرعات بواسطتها لم تحصل على إذن بذلك من الحكم العسكري.
تذمرت سمحية خليل وشكت من عدم فهمها لأسباب المنع. حيث أن أمسية كهذه لا تلقي فيها الخطب السياسية ولا يتم ترديد الأناشيد ولا يتم التطرق للسياسية. إنها كثيرا ما تذكر "الكابتن صموئيل" وهو من رجالات الحكم العسكري. ذلك الرجل الذي توجهت إليه بطلب الأيضاحات عن قرار فرض الاقامة الجبرية عليها ولكنها لم تتلق أي جواب، بالرغم من أنه صرح في حينه بالاجابة على تساؤلاتها بهذا الخصوص. ورغم أنها كتبت عدة رسائل عن نفس الموضوع وآخرها مع عدة نسخ للحاكم العسكرين ولوزارة الشؤون الاجتماعية، ووجهت مراسلات مختلفة في الضفة مما دعا الكابن "صموئيل" إلى تأنيبها على أسلوبها في الكتابة. لأنها تعودت على استعمال اصطلاح "الضفة الغربية" بدلاً من "يهودا والسامرة" وأن "هذا هو احتلال وليس حكماً ديمقراطياً" فشَدَّدَ على ذلك كابتن "صموئيل" حيث قال "هذا حكم عسكري وعليك تنفيذ الأوامر".
ليكن مثالاً لن يُقتدى !
حدث تحول كبير لدى مواطني الأراضي المحتلة منذ سنة 1967 بالنسبة لقضية "المسموح والممنوع" فيما يخص الفتاة العربية. إذ تًمثُل أمام المحاكم العسكرية في كل سنة عشرات الفتيات المشتبه بقيامهن بنشاط معادٍ للاحتلال. ولم يَعتد الآباء في الماضي على رؤية الفتيات الفلسطينيات في السجن. ولكننا نراهم اليوم وقد رضخوا للأمر الواقع فأصبحوا يشيرون إلى ذلك بكبرياء. كما أن الطالبات القرويات يبتن في بيوت الطلبة في الجامعات على مرآى من الأهل الذين يعلمون أن بناتهم لا يقتصرن على الدراسة فقط، حيث شملتهن سمحية خليل في النشاط الوطني.
يحتاج المجتمع الفلسطيني إلى امرأة أولى، وتُفسَّر سمحية خليل اليوم "المرأة الأولى" وبسبب علاقاتها مع كريم خلف وبسبب علاقتها مع الجبهة الوطنية الفلسطينية في المناطق، اعتقلت سمحية خليل في أواخر سنة 1976. وكذلك بشير البرغوثي عضو الحزب الشيوعي في منطقة رام الله الذي اعتقل أيضاً بسبب علاقته بالحزب الشيوعي الفلسطيني والاشتباه بقيامه بنشاطات معادية في منطقة رام الله. وقد كانت هناك شبهات تحوم حول الجبهة الوطنية بأنها تقوم بنشاطات غير شرعية من ناحية أمنية وسياسية. وعلى هذا الأساس اعتقلت سمحية خليل رهن التحقيق. كما أنه جرى تحقيق مع رئيس بلدية رام الله كريم خلف ويقولون في دوائر الحكم العسكري بأنهم وجدوا في بيته وثائق تدينه. لقد أطلق سراح سميحة خليل على أثر إضرابها عن الطعام في السجن والاعتصام المستمر الذي قامت به نساء رام الله. ومن الطبيعي أن ترفع الاعتقالات المستمرة مكانة سميحة خليل وتقوي مركزها. وهناك من يقول بأن محافظة سميحة على موقف معتدل في الظاهر وعدم تهديدها الزعامة السياسية في الضفة قد قوّى مركزها عند هذه الزعامة.
لقد أثرت سميحة خليل من ظهورها في السنة الأخيرة في محاكمة رؤساء البلديات، وفي محاكمات تختص الأراضي المصادرة بهدف الاستيطان، ونراها تتجول برفقة النساء ولا تكثر من الظهور مع الرجال ذوي المناصب السياسية.
لقد رفضت يسرى قواسمي الظهور أمام وسائل الإعلام قبل أن تستشير سميحة خليل. فعندما تقدمت لمحكمة العدل العليا بما يخص زوجها فهد القواسمي، تقبلت توجيهات سميح خليل عن كيفة سلوكها، وبما يجب أن تصرح به. ومن المعروف أنه لم يسبق أن ظهرت زوجة القواسمي إلى جانب زوجها في أي حدث سياسي. ونفس الشيء ينطبق على زوجة محمد ملحم رئيس بلدية حلحول المبعد، ولكنهم يقولون أن سميحة خليل هي التي شجعتهن على الوقوف على رأس النضال من أجل إطلاق سراح أزواجهن المناضلين. وفي الحقيقية قإن هذه هي الوظيفة الهامة والخفية لسميحة خليل وهي تشجيع النساء العاديات على الخروج من أجل النضال.
لقد سمعها صحفي إسرائيلي تقول لزوجة القواسمي: "انظري إلي، فأنا أتحمل وأعاني ولكني لست خائفة. لا مستقبل لك بدون زوجك، ليكن زوجك قدوة لك، تشجعي وتقدمي".
إننا عائدون
من أين تحصل سميحة خليل على ميزانية الجمعية التي تقف على رأسها ؟
يقولون في أوساط الحاكم العسكري بأن رئيس بلدية البيرة وأعضاء المجلس البلدي يهتمون بتمويل الميزانية عن طريق المصادر المالية للمنظمة أو من اللجنة الأردنية المشتركة.
تدعي سميحة خليل بأن الأموال تجمع من تبرعات الأعضاء ومن بيع منتجات الجمعية ومن الأشغال اليدوية وغيرها. وكذلك من دعم بعض المنظمات الشعبية في الأراضي المحتلة ومن الأخوة المغتربين. ودفاتر التسجيل المحاسبية تثبت ذلك. وهي تدعي أنها على غير استعداد لتقديم تقرير عن مصادر تمويل الجمعية للحكم العسكري. وتشير مصادر الحكم العسكري إلى أن دعم أبناء الضحايا والعائلات التي فقدت معيليها في مقاومة إسرائيل هو من صندوق الصمود المرتبط كلياً بمنظمة التحرير الفلسطينية.
تعمل الجمعية الخيرية التي تقف سمحية خليل على رأسها حسب نظرية لجنة التوجيه الوطني. أي التواجد في كل مكان يلحق فيه الاحتلال ضررا في الأراضي المحتلة. كان هناك ما يشبه "نظام تقسيم العمل" في لجنة التوجيه الوطني. فرئيس بلدية البيرة يهتم بعمليات الشرح والتوضيح لوسائل الإعلام المحلية والعالمية، ورؤساء اللجان الذين هم رؤساء بلديات نابلس ورام الله والخليل وممثل غزة، أنيط بهم رسم الخط السياسي والوطني. وعملت سميحة خليل في الشؤون الاجتماعية. فكانت تؤمن الملابس والأدوية والأغذية لمخيم اللاجئين في الجلزون بعد كل منع تجول. وكذلك لعائلة الشوملي التي أجليت لمعسكر اللاجئين المهجور قرب أريحا، وللعائلات التي هدم الحكم العسكري بيوتها بسبب اشتراك أبنائها في الأعمال الفدائية، وللعائلات التي اعتقل أبناؤها في العمل الفدائي.
نلاحظ أنه حين وقوع حدث وطني أو سياسي، تمتلئ صحف الأراضي المحتلة بإعلانات التأييد أو العزاء حسبما تتطلب المناسبة. هذا وتوجد سلسلة إعلانات ثابتة للجمعيات الخيرية في هذه الصحف. وينظر لنشاط سميحة خليل بأنه فعاليات اجتماعية أو خيرية فقط. ولكن من المضحك أن نعتقد أن الشؤون الاجتماعية منفصلة عن الشؤون السياسية وأن ننظر إلى دعم عائلات أعضاء المنظمات الفلسطينية دون أن نفسر ذلك بأنه تأييد للثورة. ونفس الشيء يسري على النظر للمساعدات التي تقدم لعائلات الضحايا دون أن نربط في ذلك مع العمل الوطني الفلسطيني. وكثيراً وبشكل دائم، يردد رئيس بلدية نابلس بأن سكان الأراضي المحتلة يشربون السياسية ويأكلون السياسة ويتنفسون الوطنية.
كان سؤالي الأخير لسمحية خليل متعلقاً بالخريطة المرسومة على السجادة المعلقة على الحائط من خلف مكتبها. إنها عبارة عن خريطة تصور فلسطين بحدود 1967 دون أن يرد فيها أي ذكر لوجود إسرائيل أو عشرات المدن والقرى الاستيطانية الإسرائيلية. وتظهر الخريطة بوضوح مدن اللد وعكا ويافا وحيفا والناصرة وغيرها. كما طرزت الرسم عبارة "خريطة فلسطين العربية الحرة" وكلمات "إننا عائدون". ومن الجدير ذكره أن مئات النسخ من هذه الخريطة تصنع في جمعية إنعاش الأسرة، وتباع لكل من يريد.
سألتها: يا سيدة خليل، هل يوجد لي كإسرائيلية مكان على هذه الخريطة ؟
فأجابت: "لم تم تصميم هذه الخريطة كرد فعل على التصريح الشهير لرئيسة وزراء إسرائيل غولدا مئير بعدم وجود شعب فلسطيني. هذه خريطة صناعية فولكلورية مقدسة بالنسبة لنا".
لقد عَبّرت بعد ذلك عن ايمانها بوجوب عمل تسوية إقليمية سياسية بين الشعبين. وعن تطلعها نحو دولة مستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في حدود الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية إلى جانب دولة إسرائيل. "اسمع في الراديو وفي التلفزيون إدعاء إسرائيل بأننا نشكل خطراً أمنياً على إسرائيل. أنظر من يحوز على الطائرات الحربية ومن يحوز على السلاح؟ من يخاف من الآخر؟! يخيل لي بأن العجلة قد قلبت لأنهم يفوقوننا قوة. نحن شعب يريد العيش بسلام. هذا هو شعوري وشعور البقية الباقية من شعبي.
هذا الحوار الجريء والذي قيل جزء منه عن الأسلوب المعروف لدى محبي السلام، لا يمكنه أن يُمثل "لقاء بين امرأتين". وكما يبدو فإن هذا اللقاء لم يأت ثماره حيث كان أشبه ب لقاء شخصي. فقد كانت هي كما قيل "بطلة عربية" وأنا ما زلت إسرائيلية. تبادلنا معاً شعارات مألوفة، ويمكن إجمال هذه المقابلة الصحفية بأن سميحة خليل هي المرأة الأولى في الضفة الغربية كقوة يجب أن تؤخذ بالحساب وتحظى بالاهتمام الكبير. لا تنسوا هذه المرأة الاستثنائية .. أذكروا هذا الاسم ...