الكرة ومشجعون يستحقون الرثاء
كتب عدلي صادق / رام الله
بعد خروج البرازيل، أظهر عرب كثيرون، مثلما أظهر آخرون من الجنوب العالمي، ميلاً الى الإسبان، أثناء متابعة مباريات اولمبياد كرة القدم في جنوب إفريقيا. ولم يُخيّب هؤلاء ظن مشجعيهم، إذ فازوا، فيما يشبه التعويض النفسي للكرة اللاتينية، علماً بأن الإسبان، وعلى الرغم من مهاراتهم وخبراتهم المتراكمة في كرة القدم؛ كانوا قبل سنوات خلت، يواجهون غمزات شمالي أوروبا ووسطها، من خلال أنموذج أو صورة البهلول "فرناندو" النمطية.
وبالطبع كان الإنجليز، في طليعة من أغاظهم التفوق الإسباني واللاتيني، على الأقل لأن لهم الفضل حصرياً، في تعليم القارة اللاتينية، وكذلك الأسبان، لعبة كرة القدم. ففي الأدب اللاتيني المتأثر بطغيان اللعبة على مشاعر الناس، تكرر السؤال: كيف قطعت كرة القدم المسافة من إنجلترا الى البرازيل؟ وكان الجواب: لقد وصلت اللعبة بالقطار. وكانت الإجابة نصف مجازية، لأن اللعبة وصلت عن طريق القطار فعلاً، بمعنى أن اميركا اللاتينية، عندما أرادت أن يكون عندها خطوط سكك حديدية وقطارات، مثلما هو الحال في أوروبا والولايات المتحدة الاميركية؛ تقدمت الشركات البريطانية بأفضل العروض، وجاءت السفن محملة بالقضبان والمعدات والقاطرات، وآلاف العمال الذين سرعان ما تحولوا الى مهاجرين في الأراضي البكر، لا سيما وأن خطوط السكك، ستكون ذات مسافات شاسعة، ما يتطلب بقاء العاملين نهائياً!
أولئك، أنشأوا كنائسهم ومدارسهم وكلياتهم، فلعبوا في ساحاتها كرة القدم، وعلّموا الراغبين من الشبان المحليين كيف يشاركون، بهدف تعزيز قوى الفرق، لكن اللعبة سرت كالنار في الهشيم. وعندما بدأ تنظيم منافسات وطنية في كرة القدم، في قارة اميركا الجنوبية، في تشيلي والأرجنتين، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر؛ كان الموعد أسبق من تاريخ دخول شعوب من القارة الأوروبية نفسها، على خط اللعبة!
وحتى الإسبان، الذين هم في طرف القارة الأوروبية؛ تعلموا الكرة على يد الإنجليز، في الفترة نفسها، حتى أن المباراة الأولى، التي أقيمت بين فريقين في بلادهم، كانت بين عمال شركات بريطانية، ولم يكن هناك في المباراة، سوى لاعب إسباني واحد مع كل فريق. ويُذكر السبق في هذا المضمار، لشركة بريطانية استرالية، لمناجم الفحم والثروات الطبيعية، حطت خيامها عند النهر الأحمر جنوبي غرب إسبانيا، وهو ما يسمونه بالإسبانية «ريو تينت» إذ أسس هؤلاء فرقاً لكرة القدم. وفعل الشيء نفسه، في مقاطعة الباسك، عمال حوض بناء السفن مع عمال مناجم أخرى، وأسسوا نادياً للكرة ولسائر الألعاب. فالإنجليز، بسبب أنهم مخترعو اللعبة، استبد بجمهورهم دائماً إحساس طاغ وعدواني بأنهم الأحق بالفوز تبعاً للريادة.
غير أن كرة القدم، كما الحضارة، ليست مرتهنة لأي شيء منقوش على حجر الأساس. وهي ليست عُهدة، وإنما شجرة يسقيها أصحابها ويرعونها ويحافظون عليها وعلى بهائها. فالمعماري الفرنسي المهندس هوسمان، هو الذي صمم، منطقة الشانزليزيه والشوارع المؤدية اليها في باريس، وهو فيما بعد رئيس بلدية المدينة وصاحب اللمسات على ما لا حصر له من العلائم في بلاده. هذا الرجل، صمم في الوقت نفسه، الشوارع والمخططات البديعة في القاهرة، في الفترة الخديوية ومن أبرزها شارع عماد الدين، لكن الشانزليزية والشوارع والأزقة المؤدية اليه، يراها الزائر اليوم في حال غير الحال التي يرى فيها أزقة عماد الدين وزوايا القاهرة وشارع ديدوش مراد في الجزائر، الذي كان من تصميمه أيضاً. وهكذا كرة القدم: شجرة يسقيها أصحابها، ويحافظون على بهائها ولا يغفلون!
وإن كانت سقاية شجرة الكرة، تصلح موضوعاً؛ فذلك لأن شعوب اميركا اللاتينية، رأت في اللعبة أمراً روحياً يضاهي الدين نفسه. ففي قول شائع، على شكل سؤال وجواب أيضاً: ما هي اللعبة الأكثر شعبية في البرازيل؟ إنها كرة الطائرة. ذلك لأن كرة القدم، ليست لعبة وإنما ديانة البرازيليين!
فاللاتينيون الفقراء، من سكان سفوح التلال وأهالي الأحياء المكتظة في البرازيل، رأوا في كرة القدم، مفاعيل الساحر المُساواتي Leveller أي الذي يساوي في المجتمع، وفي الملعب، بين الناس من كل الطبقات، وكل إنسان بشطارته وليس بعائلته ولا بدراهم أبيه. وقد استحوذت اللعبة على مشاعر الناس حتى أصبح لها سلطاناً مقلقاً لعلماء الاجتماع. وظهرت في الأحياء الفقيرة من المدن البرازيلية، ظاهرة “التعبد” في أندية كرة القدم المحلية، لأن الفوز بالفردوس الأرضي، سيتحقق للمثابرين الطائعين الذين لا يخلفون للمدربين ميعاداً. وبهذا الفوز سيخلع المُبشَّرون بجنة النجومية، من واقعهم البائس، فينتشل واحدهم أهله معه، مع المليحة التي اصطفاها.
فهكذا كان الأمر بالنسبة للأرجنتيني دييغو مارادونا، الذي تفتحت عيناه على الحياة وسط أكوام القمامة في الحي الفقير المكتظ، وقد دخل بقوة الى ملعب الكرة في سن الخامسة عشر، في العام 76 أي في سنة وقوع الأرجنتين تحت قبضة نظام عسكري كان يُحرم السياسة على الشبان. لكن الجونتا الحاكمة في بلاده، وجدت نفسها مضطرة الى استقطابه كنجم كرة صاعد وموهوب. وعندما اجتاح البريطانيون جزر فوكلاند في العام 82 بدأ نجم الكرة يتطلع الى يوم يزعزع فيه بدن الإنجليز، حتى جاء العام 86 عندما سجل هدفاً بيده في مرماهم، فسرى في روح أمته، الجزم القاطع بأن يد الله هي التي سجلت الهدف، أما القدم اليسرى المقدسة، فقد استكملت الثأر الأرجنتيني من الإنجليز!
أما عاثرو الحظ، ممن لا يرتفعون الى مصاف النجوم، من خلال “معابد” الكرة وأنديتها، فإنهم يخففون آلام الفاقة بالتمني من خلال متابعة مجريات الكرة، بحماسة لافتة، مثلما يفعل العربان للتخفيف التلقائي أو اللا إرادي عن إحباطات نفوسهم واختلاجات هزائمهم الرياضية والسياسية؛ بمتابعة فرق أقوام آخرين، يشجعونها بأحاسيس لاتينية شديدة الحرارة، إن حال هؤلاء، الذين لم يتعلموا من الإنجليز شيئاً، سوى طاعة الأسياد؛ يستحق الرثاء!