الفلسطيني افتيم قريطم: مقدسي حمل الرسالة الرياضية النبيلة...
الخليل- كتب فايز نصّار/ قبل قيام السلطة الوطنية الفلسطينية كان الرياضيون يستقبلون ما تيسر من معلومات رياضية من محطات التلفزة المصرية والأردنية ، وأحياناً من تلفزة الاحتلال ، فيما كانت إذاعة لندن المصدر الأول للمعلومة الرياضية ، من خلال برنامج المجلة الرياضية ، الذي ينتظرونه مساءاً ، أو يسمعونه معاداً صباح اليوم التالي .
ولم يكن أبناء جيلي يحبون الـ BBC ، التي لم تكن مصدر ثقتهم ، كونها تقدم المعلومة من وجهة النظر الغربية ، المعادية لأمتنا العربية ، وتتبنى الرواية الصهيونية في العدوان على البلاد العربية ، لذلك كان تَلقي الأخبار السياسية من بي بي سي حذراً، فيما لم تكن المعلومة الرياضية مشكلة بالنسبة لمتابعي إذاعة لندن ، حيث كان يكفي للتأكد من صحة خبر مشكوكٍ فيه أن نقول : إن الـ BBC أذاعته في نشرتها ، بما جعل المتابعين يحفظون عن ظهر قبل أسماء فرسان بي بي سي العرب كماجد سرحان ، وسامي حداد ، وجميل عازر، ومديحة المدفعي، وحسن الكرمي ، ورشاد رمضان ، وسلوى الجراح ، وأفتيم قريطم .. وغيرهم ممن نقف احترامًا لمِهنيتهم ، وصوتهم النقي ، وثقافتهم العالية.
صوت من القدس العتيقة
وقدمت المجلة الرياضية للبي بي سي - بنسختها العربية - مجموعة من مقدمي البرامج المرموقين ، كاسماعيل طه ، وفاروق الدمرداش ، وعمرو الكحكي ، ومنها أيضاً ابن القدس القديمة الفلسطيني افتيم قريطم ، الذي قضى ستين سنة في عرين الإذاعة الأكثر انتشاراً في تلك الأيام ، والذي يعتبر علامة فارقة في برنامج إذاعة لندن الرياضي ، ولكنّ قريطم ينصف من سبقوه قائلاً : إنّ الفلسطينيين موسى بشوتي ، وأكرم صالح سبقوني لوضع المداميك الأولى لهذا البرنامج ، مؤكداً أنّه ثالث ثلاثة فلسطينيين تركوا بصمات رياضية خالدة في البي بي سي !
ودخل الإعلامي المقدسي افتيم رحاب صاحبة الجلالة منذ نعومة أظافره ، وذلك من بوابة إذاعة الشرق الأدنى ، التي تأسست في فلسطين سنة 1940 ، والتي نالت الكثير من الانتشار في فلسطين وغيرها من الدول ، وبدأ قريطم رحلته الإعلامية الغنية كمهندس صوت ، قبل التدرج في الاخراج ، وتقديم وإعداد البرامج ، والتعليق على مباريات كرة القدم ، والتنس الأرضي !
وبعد العدوان الثلاثي على مصر انتقل قريطم إلى هيئة الإذاعة البريطانية BBC ، وواصل عمله الإعلامي من العاصمة القبرصية نيقوسيا ، قبل الرحيل إلى العاصمة البريطانية لندن ، التي عاش قريطم فيها ، وأصبح أحد عناوين الإعلام الرياضي الفلسطيني في المهجر ، من خلال إعداداه وتقديمه لبرنامج المجلة الرياضية !
بين نيقوسيا ولندن .
وشاءت الصدفة أن يتحول قريطم من الهندسة الإذاعية إلى إعداد وتقديم البرامج ، وذلك عندما انتقل إلى قبرص 1956 ، ففي تلك الفترة نُفيّ كبير أساقفة قبرص الأسقف مكاريوس إلى سيشل .. ولما عاد الأسقف إلى وطنه تواجد قريطم ، الذي بادر إلى إعداد تقرير بعثه للبي بي سي ، ونال استحسان الجميع .
وقبل ذلك بدأ قريطم حياته الرياضية في حارات القدس التي ولد فيها سنة 1935 ، حيث لعب كرة القدم ، ولكنّه برع أكثر في لعبة التنس الأرضي ، التي جعلته قريباً من الحالة الرياضية الارستقراطية في لندن ، وخاصة من خلال تعليقه على مباريات بطولة ويمبلدون المعروفة .
تجربتي مع قريطم
وأعتقد أن شهادتي مجروحة في استاذي افتيم قريطم ، الذي تشرفت بالعمل معه كمراسل للمجلة الرياضية لست سنوات ، بعد قيام السلطة الفلسطينية ، حيث كنت أقدم التقارير حول بدايات النهوض الرياضي في الوطن ، وتشرفت بمزاملة كبار مراسي البي بي سي المعروفين ياسر علي ديب من دمشق ، وأيمن جادة من الدوحة ، وعمر غويلة من تونس ، محمد قدري حسن من عمان ، وجمعة نصار من الامارات ، ناهيك عن المبدع ميشيل البقيلي .. وغيرهم ، بما جعل المجلة الرياضية وجبة كروية عربية ، ساهمت في تقريب المسافات بين الرياضيين العرب قبل ظهور الإعلام الإلكتروني .
وشخصياً أدين بكثر من الفضل للأستاذ أفتيم قريطم ، الذي كانت ملاحظاته لي دروساً استفدت منها كثيراً ، كما أنّ اشاداته بجهودي شكلت حافزاً كبيرا لي خلال عملي كمراسل رياضي لبي بي سي ، ومن ذلك إعجابه بتقرير قدمته عن عنصرية فريق من دول الاحتلال في مواجهة نادي سخنين العربي ، والهتافات العنصرية من جماهير الفريق الصهيوني، حيث قال لي بالحرف الواحد: لقد قدمت بي بي سي الانجليزية تقريراً عن الموضوع بعد أسبوع ، كما نلت الإشادة منه عندما كلفني بتغطية مونديال فرنسا من باريس ، وحصولي على سبق صحفي من العميد فاروق بوظو : الذي قال لي يومها: إن الحكام العرب سيكون لهم شان في هذا المونديال ، وفعلاً قاد المغربي سعيد بلقولة النهائي بين البرازيل وفرنسا، وقاد الاماراتي علي بوجسيم في نصف النهائي البرازيل وهولندا، والمصري جمال الغندور ربع النهائي بين البرازيل والدنمارك .
أفتيم الفلسطيني
ولم ينقطع قريطم عن زيارة الوطن ، وكان واحداً من خيرة محبي القدس ، وأذكر زيارته لمسقط رأسه سنة 1996 ، حيث تجول في مدن القدس ، ورام الله ، ونابلس ، وغزة ، والخليل ، بما جعله يذكر تلك الأيام ، ويشيد بكنافة نابلس التي أكلها على مائدة المرحوم راسم يونس ، وقدرة الخليل ، التي تناولها قرب كنيسة المسكوبية بدعوة من شباب الخليل ، ولقائه القائد الراحل ياسر عرفات بالصدفة في غزة ، التي انتهز قريطم فرصة زيارته لها لممارسة هوايته في لعب التنس الأرضي ، فكانت المفاجأة مرور الراحل أبو عمار قرب الملعب ، فتوقف أبو عمّار وصافح قريطم ، ولعب معه التنس !
وخلال تواجده في الوطن كان قريطم شاهداً على وضع اللبنات الأولى للاتحاد الفلسطيني للإعلام الرياضية ، كعضو في لجنة الإشراف على أول انتخابات للاتحاد نظمت يوم 19 تموز 1996 في قاعة بلدية البيرة ، وذلك إلى جانب الراحل جمال محيسن ، وعضو المجلس التشريعي حسام خضر.
العمة بي بي سي
وغادر افتيم قريطم " عمته " البي بي سي سنة 2000 ، ليعمل بعد ذلك مع شبكة الجزيرة الرياضية ، ليظهر بعد ذلك في احتفالية البي بي سي بمرور 80 عاماً على تأسيسها ، ويقدم للجمهور كتابه ، الذي يقترب من السيرة الذاتية " أنا والعمة بي بي سي " ، والذي قدمه سنة 2016 ، والعمة هنا اسم الدلع للبي بي سي بين موظفيها آنذاك !
والكتاب أقرب للمذكرات الشخصية ، يحكي قريطم من خلاله علاقته بـ BBC منذ التحاقه بالعمل في محطة الشرق الأدنى في فلسطين تحت الانتداب عام ألف وتسعمئة وواحد وأربعين وحتى غادر مقر بوش هاوس في لندن في السنوات الأخيرة من التسعينات ، وكيف تحول من مهندس للصوت إلى نجم لامع في الصحافة الرياضية.
ويلخص كتاب "أنا والعمة BBC"، السيرة الإعلامية لأفتيم قريطم ، حيث أصدره باللغة الإنجليزية ، وصدرت طبعته العربية عن دار النسيم المصرية عام 2021م، بترجمة زميل قريطم في البي بي سي الإعلامي المعروف فؤاد عبدالرازق.
الفترة الذهبية
ويتحدث قريطم في كتابه عن سبب فوز البي بي سي بالمتابعة الكبيرة في فترتها الذهبية ، ويبرر ذلك بحرصها على توظيف كوادر موهوبة ، تمتلك الثقافة العالية ، والامكانيات اللغوية الكبيرة ، ومن خلال سياستها التحريرية ، التي حاولت تقديم " الخبر الصحيح " ، ومن مصدره الأصلي ، إضافة إلى " الحياد " ، الذي خاضت من أجله حربًا شرسة عام 1956 ، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، كما يروي المؤلف، عندما حاولت الحكومة البريطانية إجبارها على تبني الموقف البريطاني من هذا العدوان، لكن البي بي سي رفضت وانتصرت لمهنيتها.
وعمد قريطم إلى المقارنة بين الظروف الصعبة ، التي كان يعاني منها العاملون في الإذاعة ، والظروف المريحة ، التي خلقتها التكنولوجيا المتطورة اليوم .. فالمونتاج على سبيل المثال كان يستغرق وقتًا ، ويتم بقص الشريط بشفرة صغيرة تشبه موسى الحلاقة ، في حين يتم اليوم بالكمبيوتر بسهولة بالغة ، أما البحث عن المعلومات حول الضيوف ، أو فقرات الحلقة المراد إعدادها ، فكان يتم من خلال قراءة قصاصات الجرائد ، وربما بعض الكتب ، في حين تكفّل العم جوجل ، وإخوته من محركات البحث بهذا الأمر اليوم بكل سهولة ويسر.
دعوة للحياد
ولأن مدة عمل أفتيم قريطم في الـ BBC طويلة - اقتربت من أربعة عقود ، فإنه يمكن اعتبار الكتاب رصدًا لتقلبات هذه القناة العريقة ، التي وقعت في كثير من الأخطاء ، التي يعزوها المؤلف لأخطاء فردية .. ومن هذه العيوب مثلًا أنها لم تكن دائمًا حيادية في طرحها ، ويستدل قريطم على ذلك بقصة خبر ورد من الأمم المتحدة ، حيث يقول : كنا ذات يوم في غرفة الأخبار نطالع خبرًا قادمًا من مقر الأمم المتحدة في نيويورك ، ويتضمن تصريحين لمسؤولين فلسطيني وإسرائيلي، فلاحظت أن مترجم الخبر استخدم الفعل "قال" في صياغة تصريح الإسرائيلي ، في حين استخدم الفعل "ادعى" في تصريح الفلسطيني!، وهنا تدخلت ، وقلت : "إننا نعمل في مؤسسة محايدة ، ولا ينبغي علينا التفرقة في الصياغة".
نكران الجميل
ومن عيوب البي بي سي ، التي ذكرها قريطم عدم تقدير الموظفين الأكفاء ، وإعطائهم ما يستحقون من تكريم، إذ رغم أن أفتيم قريطم جلب للبي بي سي سمعة كبيرة في البرامج الرياضية، وكون علاقات مميزة مع شخصيات رياضية مهمة ونافذة في الوطن العربي ، إلا أن مسؤولي القسم العربي البريطانيين كانوا يضعون له العراقيل في عمله ، ويرفضون اقتراحاته تغطية الأحداث الرياضية الكبرى ككأس العالم في فرنسا سنة 1998، أما الألعاب الأولمبية في سيدني سنة 2000، فقد اعتبرها قريطم "القشة التي قصمت ظهر البعير"، إذْ فوجئ بأن القسم العربي قرر إيفاد زميل له "ليس لديه أي خبرة في تغطية الأحداث الرياضية" لتغطية الأولمبياد ، رغم أن قريطم كان قد أبدى اهتمامه واستعداده لهذه التغطية قبل انطلاق البطولة بثمانية أشهر... وهنا قرر تقديم استقالته منهيا قرابة سبعة وثلاثين عاما في هذه الإذاعة العريقة، بدون أي راتب تقاعدي.
في قصر باكنهام
ويعتمد كتاب قريطم على ذاكرته الخصبة ، واستعادته للأحداث بعد سنين طويلة من وقوعها، وهذا ما يفسر عدم استرساله في سرد بعض الأحداث والمواقف ، التي تعرض لها ، ومنها موقف مشاركته الفنان الشهير يوسف وهبي التمثيل في إحدى التمثيليات، ودخوله قصر باكنجهام دون تصريح ، وقصف الغرفة ، التي كان يقيم فيها وأسرته في القدس بعد فترة قصيرة من الرحيل عنها إلى عمّان.
محطات خالدة
يعتبر الإعلامي الأستاذ أفتيم قريطم من الصحافيين المتخصصين في مجال الخبر الرياضي، فخلال مقامه بالقسم العربي من هيئة الإذاعة البريطانية، عمل على تغطية كأس مباريات الدوري الإنجليزي فضلا عن تغطية العديد من التظاهرات الرياضية ، وتقديم العديد من البرامج ، والنشرات الرياضية.
وأبدع وهو يشتغل في القسم العربي من هيئة الإذاعة البريطانية عملا بعنوان:"حصاد الشهر" وهو عبارة عن شريط يتضمن مجلة إذاعية ناطقة تسمع ولا تقرأ، كانت من إعداده وإخراجه ومن تقديم المذيعة سلوى الجراح، وبدون شك يتوفر المستمعون القدامى على نسخ من هذا العمل في شكل أشرطة.
ونقل قريطم من الميدان الكثير من الأحداث الرياضية الخالدة ، وخاصة في محيط القارة الأوروبية ، ووصل إلى القاهرة في أول نقل لمباراة خارجية ، عندما لعب منتخبا مصر والجزائر فاصلة التأهل لمونديال ايطاليا 1990، والتي أججت المشاعر كثيراً ، وشهدت احداثاً غير مبرراً ، استكمالاً لما حدث في تصفيات لوس انجلوس 1984 بين المنتخبين ، والتي ظهرت بأبشع صورها في تصفيات مونديال جنوب افريقيا 2010.